(
محمد ابراهيم الحربي/ عسفان
على بعد حوال ٦٠ كلم جنوب شرق عسفان تقع قرى مركز هدى الشام ومنها قرية القرين القديمة اللافتة للانظار، والتي تدقيق النظر في أطلالها يستثير في نفوس زائريها مكامن الشوق لتلك الايام الخوالي، عندما كانت مبانيها زاخرة بحياة الاباء والاجداد، و يزداد الشوق لعبق تاريخها عند كل من عاش بمثلها أو فيها أو سار بين طرقاتها العتيقة، وتلمس منازلها القديمة التي ما زالت متماسكة رغم بنائها من الطين. وتجبر الزائر لها على فتح حقيبة ذكرياته وتذكر ماضيه القديم.
من المعلوم أن عجلة الحياة في القرى القديمة ومنها هذه القرية تبدأ منذ ساعات الفجر الاولى حين يؤذن المؤذن لصلاة الفجر فيتوجه المصلون لمسجد القرية فيما يصحو أفراد العائلة وفي مقدمتهم الام في هذه الاثناء التي توقظ أطفالها وتوقد النار وتحلب الحليب وتعد القهوة وأفراد العائلة ملتفين حولها ومن بينهم طبق التمر، وفي الوقت نفسه تجلس الام لاعداد خبز الملة المدفون بين ثنايا النار يلي ذلك سماع صدى أصوات صغار الاغنام ممتزجا بأصوات كبارها حيث لحظات مسراح الاغنام أي ذهابها الى مناطق الرعي والرعاة الذين لم يكونوا من الوافدة كما يعتقد البعض ولكن نساء القرى هن من يقمن بهذه المهمة فيتحركن في مجموعات تتحول فيها أغنام الجيران الى قطيع واحد يرتع في السفوح الجبلية والوهاد حول القرية ولا يعدن الا عند المساء بعد قضاء نهار كامل تتخلله فترة المقيل التي يستغلها الرعاة في اعداد الغداء والشاي او الخبز واضافة بعض الحليب الطازج والى جواره براد شاي صغير له نكهة خاصة وطعم مميز وتظل أواني الطبخ معلقه في احدى الاشجار المعروفة بالمقيل وهو المكان الذي يرتاح فيه الرعاه وأغنامهم فترة الظهيرة.
وعلى صعيد آخر ينتشر سكان القرية طلبا للرزق في وقت مبكر من الصباح فترى كلا منهم سائرا في اتجاه منهم من راكب على جمله او حماره او ماشياً على رجليه حيث العمل في البلدان (الحقول الزراعية ) وبعضهم لا يعود الا عند الظهيرة للقيلولة والغداء ثم يستأنفون رحلة العمل واكثرهم ليس لديه عمالة تسانده ولكن أبناءه هم من يقوم بهذا الدور كلا والعمل المناسب لسنه فيما يظل الصغار يلعبون في مراجيح علقت لهم في غصون الاشجار وغالبية ألعابهم يصنعونها بأيديهم من خامات بيئتهم وبعد العصر ترى النساء محتشمات يحملن قرب الماء على جنوبهن واخريات على رؤوسهن حزم الحطب يمشين في استحياء والصبيان يحملون بعض الخضروات إدام للعشاء مثل البامية والملوخية والباذنجان من المزارع القريبة وعند الغروب تتعالى أصوات الاغنام وصغارها مرة اخرى حيث العودة من المراعي. وعندما تقبل على القرية من مكان مرتفع تطل عليك شعلة الميافى تصطلي (تنور الخبز) عند كل منزل من منازل القرية فيتكرر اجتماع الاسرة حول موقد النار حيث الإضاءة والتدفئة وتناول وجبة العشاء ولا يخلو مجلس الأسرة من عبارات المزاح مع الصغار
وبعد حلول الظلام تشعل لمبات وأسرجة لإضاءة المنازل ومن عاداتهم تناول وجبة العشاء قبل العشاء ويخلدون للنوم مبكرا وأثناء سكون الليل تسمع أصواتا متقطعة لنباح الكلاب التي تقوم بحراسة الاغنام وحمايتها من مهاجمة السباع، كما أن نباحها ينبه أهل القرية بقدوم الضيوف او الغرباء أو السباع والناس قديما بطبقات النباح يستدلون على هوية القادم نحو قريتهم.
و في تلك الحقبة من الزمن لا توجد لدى أهالي القري أماكن للتسلية والترفيه سوى مجالسهم العامرة التي يقيمونها في منازلهم ويعطرونها ببعض القصص الهادفة والقصائد المشوقة والقضايا الافتراضية فيما يتجه البعض منهم أحيانا خصوصا في الليالي المقمرة نحو بطاح الوادي حيث التربة الرملية النقية والهواء الطلق فيلتقون مع بعض معارفهم وتدور المساجلات الشعرية وتمارس الفنون الشعبية مثل الجمالي والحدايا وشيلة العاج والكسرات ثم يعودون الى منازلهم ليناموا ليلتهم، تلك بعض ملامح حياة اهل القرى القديمة وقرية القرين بهدى الشام واحدة منها
وعند بناء المساكن وعلى ندرة وجود عمالة وافدة أو مقاولين في الماضي البعيد ولكن سواعد أهل القرية وتآزرهم وتكاتفهم هو سبيلهم الوحيد لبناء مساكنهم حيث يتعاون الكل في إعداد وجمع مواد البناء من طين ولبن وزبل وأخشاب وجذوع نخل وجريد فيما تتعهد نساء الحي بجلب المياه في القرب فيقوم الرجال بعجن الطين ويثبت الخشب ويرص اللبن وتستمر عملية البناء عبر مراحلها المتعددة كما يقومون بصنع الأبواب وأقفالها من الخشب وتكون المساكن من غرفة ومطبخ أو غرفتين وفناء صغير ومساحة الغرف في المتوسط 12 مترا وارتفاع حيطانها حوالي 3 امتار فيما لا يتجاوز بابها 1.80 ولها نوافذ وفتحات صغيرة تأخذ أشكال مختلفة تعطي جمالا وهواء
و قرية القرين ترتكز منازلها على كتلة جبل شامخ وسط مجرى وادي هدى الشام ومما تمتاز به تلك المنازل الدفء شتاء والبرودة صيفا يساعدها في ذلك جدارها الذي يصل سمكة 40 سم.
و من الداخل توجد ارفف داخل الجدران وسقف تلك المباني يتكون من جذوع النخل والجريد ويتم شطر الجذوع لاستخدامها في تصريف مياه الامطار من سطوح المنازل وبين المنازل يوجد ممرات بها درجات من الصخور لتسهيل تنقل الاهالي بين مساكن الحي ويقع على عاتق النساء في ذلك الوقت مسؤولية تأثيت وتجميل المسكن من الداخل فالنساء يسهرن الليالي ويقتطعن جزءا من وقتهن في صناعة الحصر من سعف النخل والدوم (الصيران) لصناعة العوازل والفرش والخصف من اجل تفريش الغرف وتزيين الجدران وعمل ستائر للنوافذ فلم تكن هناك محلات موبيليا او موكيت ولا رخام او بورسلان، أعمال عديدة يقوم بها سكان القرية متعاونين متكاتفين متحابين حياتهم جميله بكل تفاصيلها وجمالها في بساطتها وخلوها من البهرجة والتكلف. وعملت بساتين النخيل والحقول الزراعية التي تحف القرين على تلطيف أجواءها وأثناء الليل ينساب نحوها نسيم الجبل العليل فما أطيب المقام فيها والعيش بها وعند تدفق السيول المنتظمة تحيط المياه بالقرية من جميع جهاتها فتبدو كما لو كانت جزيرة وسط بحر أو نهر ويقف السكان في المشاريف مستمتعون بهذا المنظر الأخاذ وفرحين بقدوم وتدفق ماء السماء
أما الغذاء فالناس بالقرى في الماضي يعتمدون في غذائهم بشكل أساسي على ما تجود به حيواناتهم من سمن وحليب واقط (مضير) ولبن وحقولهم الزراعية من تمور وحبوب كالذرة والدخن والقمح وجمع العسل وكان الشراء يتم بالعملة أو بطريقة المقايضة مع أصحاب المحال التجارية والتجار الذين ياتون بجمالهم ودوابهم محملة بسلع وبضائع كالبن والاقمشة والارز والملح والاسماك المجففة ويعودون بالتمور والمنتوجات الحيوانية.فالحياة بالماضي برغم ظروفها القاسية كانت أفضل من الحياة الان نظرا لبساطتها وتوفر فرص التقارب والتراحم بين الأهالي فلم تكن هناك أعمال وظيفية تشغلهم ولا وسائل نقل تبعدهم وكانت المرأة في الماضي لها دور كبير في مساعدة الرجل وتخفيف اعباء الحياة عنه.
و الحياة بسيطة وسهلة وقائمة على المحبة والبركة بالرغم من الظروف القاسية التي كانت تواجه الأهالي إلا أنها كانت أياما جميلة لقوة العلاقات والروابط الاجتماعية القائمة على التعاون والمحبة بين الجميع الذين كانوا يدركون أهمية العمل والسعي لطلب الرزق والتكاتف. تلك بعض مظاهر الحياة في القرى ومنها قرية القرين بمركز هدى الشام التي تمت زيارتها من قبل عدد من محبي التراث والمهتمين بالآثار بمحافظة الجموم والمراكز التابعة لها.
واليوم مركز هدى الشام والقرى التابعة له رغم ماتشهده من تطور الا انها تحتاج العديد من الخدمات البلدية الأساسية.